فقه اللغة “نشأته وتطوره”


الفصل الأول: بين فقه اللغة وعلم اللغة

فقه اللغة وعلم اللغة:
من العسير تحديد الفروق الدقيقة بين علم اللغة وفقه اللغة؛ لأن جل مباحثهما متداخل لدى طائفة من العلماء في الشرق والغرب، قديمًا وحديثًا, وقد سمح هذا التداخل أحيانًا بإطلاق كل من التسميتين على الأخرى، حتى غدا العلماء يسردون البحوث اللغوية التي تسلك عادة في علم اللغة, ثم يقولون: وفقه اللغة يشمل معظم البحوث السابقة، ولا سيما إذا قورنت هذه البحوث بين لغتين أو لغات متعددة1.
وإذا التمسنا التفرقة بين هذين الضربين من ضروب الدراسة اللغوية، من خلال التسميتين المختلفتين اللتين تطلقان عليهما، وجدناها تافهة لا
__________
1 انظر على سبيل المثال “علم اللغة” لوافي 12, وهذه الطريقة في الدراسة تسمى حينئذ الطريقة المقارنة method comparee. وراجع ما يتلعق بها في كتاب بيرو: perrot, Linguistiqus72
وزن لها، فاسم على اللغة عند الفرنجة: Linguistiqus ou Science Du Langage, أي: العلم المختص بالكلام أو اللغة؛ واسم فقه اللغة عندهم: “philologie”, وهي كلمة مركبة من لفظين إغريقيين أحدهما philos بمعنى الصديق، والثاني Logos بمعنى الخطبة أو الكلام، فكأن واضع التسمية لاحظ أن فقه اللغة يقوم على حب الكلام, للتعمق في دراسته من حيث قواعده وأصوله وتاريخه.
وعلى هذا النحو كان العلماء في عصر إحياء العلوم يفهمون “فقه اللغة”، بل كان هذا الاسم إذا أطلقوه لا ينصرف إلّا إلى دراسة اللغتين الإغريقية واللاتينية؛ من حيث قواعدهما, وتاريخ أدبها, ونقد نصوصها، وأصبحنا اليوم نعد هذه الدراسة متحفية، ونسميها: “فقه اللغة الاتباعي” philologie classique
وربما لا يكون مفهوم علمائنا القدامى لـ”فقه اللغة” شديد الاختلاف عما أصبحنا نسميه: “فقه اللغة الاتباعي” إلّا في مواطن قليلة؛ فسنرى أن كثيرًا من مباحث القوم في اللغة كان يتناول العربية الفصحى؛ من حيث قواعدها, وتاريخ أبدبها, ونقد نصوصها، فقابلت الفصحى عندهم الإغريقية واللاتينية الفرنجة.
ومع أن دراساتنا هذه اشتملت على طائفة من المباحث خرجت عن النطاق الاتباعي التقليدي، آثرنا عندها ملحقة بفقه اللغة؛ لأنها قصرت على إبراز خصائص لغاتنا العربية، فكانت أجدر أن تسمى بالاسم الشائع عند العرب حين ألفوا في هذه الموضوعات, وإنه ليحلو لنا أن نقترح على الباحثين المعاصرين ألَّا يستبدلوا بهذه التسمية القديمة شيئًا، وأن يعمموها على جميع البحوث اللغوية؛ لأن كل علم لشيء فهو فقه، فما أجدر هذه الدراسات جميعًا أن تسمى فقهًا!
منهج فقه اللغة واستقلاله:
وحين نأخذ بهذا الاصطلاح، يسهل علينا أن نحدد نطاق فقه اللغة، سواء أتعلق بعرض المباحث القديمة عرضًا جديدًا, أم يقوانين علم اللغة في العصر الحديث، فليس شرطًا لازمًا أن يتحدث العالم اللغوي بعدة لغات؛ لأن كثيرًا من علماء اللغة وفقهائها المشاهير لم يكونوا قادرين على الاستخدام العمليّ لأية لغة غير لغتهم القومية1. على أننا لا نجحد الثمرات التي يجنيها فقه اللغة إذا أجاد تلك اللغات قراءة وكتابة وحديثًا، فلا ريب أنها توطئ لمباحثه، وترفده بالدقة فيما يستخلصه من الأحكام.
وفي دراسة لغتنا العربية, بخاصة أعظم بالباحث إذا كان ملمًّا ببعض اللغات السامية؛ كالسريانية والعبرية! فبهذا الإلمام يلاحظ مواطن التقارب والاختلاف، والأخذ والاقتباس.
ومنهج فقه اللغة في البحث مستقلٌّ كل الاستقلال عن مناهج العلوم الأخرى، فيجب إقصاء التفكير الفلسفي عنه، لئلَّا تجيء الأحكام فيه مطبوعة بالطابع الغيبي أو “ما وراء الطبيعة”، أو المنطق الصوري.
ولعل فقه اللغة في آثار علمائنا القدامى لم يأت بالكثير من الآراء الأصلية؛ لأنهم عدوه جزءًا لا يتجزأ من التفكير الفلسفي القديم، ولا سيما التفكير اليوناني الذي كان يرى أن “دراسة اللغة اليونانية في تراكيبها وأساليبها تصدق على جميع لغات العالم؛ إذ لا مناص من أن تجري تلك اللغات على مقياس اليونانية2”.
وعندما نطرح جانبًا كل أثر للمباحث التي لا تتعلق باللغة تعلقًا وثيقًا، نستطيع أن نعرف فقه اللغة بأنه “منهج للبحث استقرائي وصفي
__________
1قارن بـperrot, Linguistique6
2 Bloomfield Language.6 وقارن بمناهج البحث في اللغة 14.
يُعرَف به موطن اللغة الأول وفصليتها وعلاقتها باللغات المجاورة أو البعيدة، الشقيقة أو الأجنبية، وخصائص أصواتها، وأبنية مفرداتها وتراكيبها، وعناصر لهجاتها، وتطور دلالتها، ومدى نمائها قراءة وكتابة”.
والبحوث الأساسية المذكورة في التعريف تتعلق بعلوم ثلاثة:
1- التاريخ: لمعرفة موطن اللغة الأول، وروابط القربى بينها وبين اللغات الإنسانية الأخرى، وتنوع لهجاتها، وتطور خطها وكتابتها.
2- علم الصوت: لبحث لهجات اللغة وأصواتها، ومعرفة أنواع التطور الصوتي فيها.
3- علم الدلالة: لبحث تطور ألفاظها وما تفيده من المعاني.
ولقد انحصرت مناهج العلماء في القرن التاسع عشر في دراسة اللغة من وجهة النظر التاريخية1، فأعلن كبارهم: “أن علم اللغة تاريخي2”.
وأضاف كثير منهم إلى الناحية التاريخية معرفة التطور الذي أصاب اللغات في مخلتف العصور.
أما القرن العشرون فقد طبع بطابع الوصفية، وتناول العلماء فيه اللغات بدراسة خصائصه الصوتية والتعبيرية، فكانت مباحثهم مجموعة مستقلة من المواد المتداخلة؛ كالأصوات والتشكيلات والمعجمات والدلالات وما يمكن أن يسمى: “علم الاجتماع اللغوي”3.
في ضوء هذه الدراسة الوصفية، انطلقوا يعالجون الأصوات الإنسانية بالبحث العميق، فقارنوا بين الحروف وصفاتها، ودرسوا أعضاء جهاز النطق, وأخضعوا ذلك كله للملاحظة المباشرة, وسنرى أن العرب برزوا في ذلك منذ قرون في علمي التجويد والصرف.
وبحثوا في اشتقاق الكلمات، وأصولها، وصيغها، وأبنيتها، وسمعاها, وقياسها.
ثم عنوا بدراسة معاني الألفاظ ودلالاتها, ملاحظين ما بينها وبين الاشتقاق من اتصال وثيق.
__________
prrrot, Linnguistique, chap. III.p. 65 1
2 firth, personality and language, in Society
sociological Review, vol. II, sect, two, 1950, p. 37
3 المصدر نفسه.
تطور التأليف في فقه اللغة عند العرب:
إن التأليف في فقه اللغة قد مَرَّ بأدوار جديرة أن تسجل، تقف الباحث على نشأة هذا العلم وتطوره, وإن من العسير استيعاب جميع الكتب المتعلقة بفقه اللغة تعلقًا غير مباشر؛ كالمصنفات النحوية والصرفية، والمباحث البلاغية, ووجوه القراءات المتواترة والشاذة, فلا بد لنا أن نقصر حديثنا على التآليف التي توفر أصحابها على دارسة ما يرتبط ارتباطًا قويًّا بفقه اللغة علمًا مستقلًّا قائمًا بنفسه، لا يناقض التعريف الذي قدمناه له.
لعل أقدم ما وصلنا من هذه الدراسات مباحث الأصمعي “أبي سعيد عبد الملك بن قُرَيْب”, المتوفي سنة 215هـ, عن الاشتقاق في العربية، وفي تسمتيتها فقه اللغة كثير من للتجوز؛ لأنها لا تعدو ملاحظات عامة اتسع القول فيها فيما بعد، وأوضحت جزءًا هامًّا من هذا العلم العظيم.
ثم أنشأ ابن جني “أبو الفتح عثمان” المتوفي سنة 392هـ, الفقيه اللغوي العبقري كتابه “الخصائص”, وراح يناقش فيه بفكره الثاقب ومنطقه السليم أبحاثًا خطيرة في أصل اللغة “أإلهام هي أم اصطلاح” وفي مقاييس العربية، واطرادها وشذوذها، وتصاقب ألفاظها لتصاقب معانيها، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، والاشتقاق الأكبر، وتركب اللغات، واختلاف اللهجات, ومع أن “خصائص” ابن جني أجدر الكتب أن تسمى بفقه اللغة، ضنَّ عليها مؤلفها بهذا الاسم!أما أحمد بن فارس “أبو الحسين القزويني” المتوفي سنة 395هـ, وهو أستاذ الصاحب بن عباد, المتوفي سنة 385هـ, فقد خلع على مباحثه في نشأة العربية اسم: “الصاحبي في فقه اللغة, وسنن العرب في كلامها”، وذهب إلى أن اللغة إلهام وتوقيف، مستدلًّا بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . على أنه ضمَّن كتابه هذا بعض المباحث الهامة حقًّا في فقه العربية؛ كخصائص هذه اللغة، واشتقاقها, وقياسها، ومترادفها, ومجازها, واشتراكها, ونحتها، واختلاف لغاته ولهجاتها.
ونرى الثعالبي “أبا منصور عبد الملك بن محمد”, المتوفى سنة 429هـ, ينشئ بعد ذلك كتابه “فقه اللغة” الذي لا تجد اسمه إلّا كالثوب الفضفاض عليه، فإنه لم يضمنه إلّا بعض المباحث القليلة التي يمكن أن تتعلق بهذا العلم، كإيراده بعض الألفاظ العربية التي نسبها أئمة اللغة إلى الرومية، أو بعض الأسماء القائمة في لغة العرب والفرس على لفظ واحد، أو الأسماء التي تفردت بها الفرس دون العرب, فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هي، أو الأسماء التي ماتت فارسيتها, مع أن عربيتها ما تزال مستعملة محكية؛ وهذه المباحث مبثوثة في الباب التاسع والعشرين من كتابه، ولا تشغل أكثر من خمس عشرة صفحة.
أما ابن سيده “أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي”, المتوفى سنة 458هـ, فقد عرض في كتابه “المخصص” لبعض البحوث المتعلقة بنشأة اللغة العربية، وبالترادف والتضاد والاشتراك والاشتقاق، وتعريب الألفاظ الأعجمية، ونحو ذلك, والمخصص يقع في سبعة عشر جزءًا، وهو حسن التنسيق دقيق.
ويتوفر الجواليقي “أبو منصور، موهوب بن أحمد”، من علماء القرن السادس الهجري، بوجه خاص على دراسة “المعرب من الكلام الأعجمي”, وكتابه مرتب على حروف المعجم, ويتلوه البشبيشي المتوفى سنة 820هـ بكتابه “التذليل والتكميل” لما استعمل من اللفظ الدخيل”.
ثم يجمع جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911, من علماء القرن التاسع الهجري, كتابه العظيم “المزهر في علوم اللغة وأنواعها” من أكثر الكتب المتقدمة، ويزيد عليها بعض الأبحاث الجديدة, ولعل كتابه -بتنوع أبوابه، واتساع أغراضه- ألصق المؤلفات بفقه اللغة؛ ففيه تقرأ عن نشأة اللغات، وتداخلها, وتوافقها، والمصنوع والفصيح، والمستعمل والمهمل، والحوشي والغريب، والمعَرَّب والمولَّد، والاشتقاق والاشتراك، والترادف والتضاد، والنحت، والتصحيف، والتحريف، والشوارد والنوادر، وما اختلفت فيه لغة الحجاز ولغة تميم، ويقع في جزئين كبيرين.
وفي القرن الحادي عشر يعنى شهاب الدين الخفاجي خاصة بالألفاظ الدخيلة على العربية، فيؤلف في ذلك كتابه “شفاء الغليل، فيما ورد في كلام العرب من الدخيل”.
الفصل الثاني: فقه اللغة في كتبنا العربية القديمة
من وصف الحقائق إلى فرض القواعد:
لقد انتهى فقهاء اللغة اليوم إلى أن “وظيفة اللغويّ هي وصف الحقائق لا فرض القواعد1″، وتلك وظيفة لم يفهما على حقيقتها أحد مثلما فهمها وطبقها سلفنا الصالح من علمائنا الأولين؛ إذ أنشأوا في فجر الإسلام يجمعون اللغة ورواياتها، ويمحصون نصوصها كل التمحيص، ويخضعونها لطرائق الاستقراء، ليخرجوا منها بما يسمونه “سنن العرب في كلامها”2.
يمكننا القول إذن: إن منهج فقه اللغة عند العرب بدأ وصفيًّا استقرائيًّا، تقرر فيه الوقائع في ضوء النصوص، لا تفرض على أحد ولا
__________
1- Arnold Smith, Gramm. and the use Words, p. VIII
2- وتجد الكثير من هذه السنن في الكتب اللغوية، كالصاحبي والخصائص والمزهر معزوة غالبًا إلى بعض العلماء الأولين.
يُقْضَى بها على أحد, ولكن هذا المنهج السليم سرعان ما انحرف واعتوره الضعف، منذ أن استبدل العرب القواعد بالحقائق, والمعايير بالوقائع، والإلزام المتسلط بالوصف الدقيق الأمين، وبدأ الناس يسمعون من اللغويين مثل هذه اللهجة الجازمة الحاسمة: “وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائها, ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نقيسه الآن نحن”1.
عوَّلوا أول الأمر على سليقة الأعرابي، وظنوا أنه “إذا قويت فصاحته, وسمت طبيعته, تصرَّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به”2، واقتنعوا بأن الأعراب، “قد يلاحظون بالمُنَّة والطباع ما لا نلاحظه نحن على طول المباحثة والسماع”3، ومع احتمالهم أن العربي الفصيح ينتقل لسانه4 إذا فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها5، ومنع رغبتهم حينئذ في رفض لغته، وترك تلقي ما يرد عنه، ورأيناهم يجنحون إلى تقييد الباحثين بما قاسه أولئك الأعراب، وقالوه، فلا يجرؤ أحد على قياس ما لم يقيسوه.
وغَلَوْا في سليقة الأعرابي غلوًّا فاحشًا, حين نسبوا إليه العجز عن نطق كلمة قرآنية بغير لهجته ولحنه، فقرأ أعرابيّ بالحرم على أبي حاتم السجستاني: “طيبى لهم وحسن مآب” فقال له: “طوبى، فقال: طيبى، فعاد أبوحاتم يصلحها له مرة أخرى قائلًا: طوبى، فقال:
__________
1 الصاحبي 33.
2 الخصائص 1/ 424.
3 المزهر 2/ 309.
4 الخصائص 1/ 421.
5 نفسه 1/ 405.
الأعرابي: طيبى، فأصرَّ أبو حاتم على إصلاحها بالواو، والأعرابي يمتنع عن نطقها كما هي في القرآن, ويستمر على لحنه، طي، طي، فلم يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هزٌّ ولا تمرين1.
وكان من أثر غلوهم هذا في سلائق الأعراب التي طبعوا عليها، أن ضيقوا على أنفسهم المنافذ والمسالك في أخذ اللغة وتلقيها, إلا ممن تتوافر فيهم شروط هذا الطبع السيلقي، فانحصر الأخذ والتلقي في قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين”، عنهم نقلت العربية، وبهم اقتُدِي، وعليهم اتُّكِلَ في الغريب، وفي الإعراب، والتصريف2.
وكان عليهم أن يحددوا موقفهم من قريش بوضوح، فلم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسميها: “أهل الله”3، فرأوا أنها كانت “مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب”4.
هنا وقعوا على الخطأ المنهجي الأول؛ إذ جعلوا سنن العرب في كلامها ما سنته قريش أو تمثلته، وأخذوا مقاييسهم لما سمعوه من ألفاظها وتراكيبها، ثم فرضوا على أنفسهم وعلى الناس هاتيك المقاييس، فقال قائلهم: “وعلم مقاييس كلام العرب هو النحو…..”5.
ولو وقفوا عند هذا الحد لهان الأمر، ولكنهم ألحقوا به خطأ منهجيًّا
__________
1 الخصائص 1/ 77-78.
2 الاقتراح للسيوطي 19.
3 الصاحبي 23.
4 نفسه 23 أيضًا.
5 الاقتراح للسيوطي6.
آخر حين قطعوا ما بين العربية وأخواتها السامية من صلات، فرأوا خصائص العربية من خلال الزاوية التي أعجبتهم؛ لأنها أوسع اللغات وأشرفها وأفضلها1؛ لا من خلال مقارنتها باللغات التي تربطها بها أواصر القربى, وأنكروا أن يكون لغير العرب من البيان أو الشعر أو الاستعارة ما للعرب: “بلى الشعر شعر العرب، ديوانهم وحافظ مآثرهم، ومقيّد أحسابهم”2.
وخصائص العربية نفسها لم تكتشف على حقيقتها فيما كتبوه؛ إذ كان المؤلفون في هذه الخصائص يبحثون عنها متأثرين بالمنطق الأرسطي الذي لم تقف عدواه عند حد، فكان لها أثر في علم الكلام والفقه، مثلما كان لها أبلغ الأثار في دراسة اللغة3, والأدلة على هذا التأثر لا تحصى عددًا, وأوضح مثال لذلك: تعليلهم مقاييس العربية، وأنها على وجه الحكمة كيف وقعت، وأنها أقرب إلى علل المتكملين منها إلى علل المتفقهين … وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات لوقوع الأحكام.
ووجوه الحكمة فيها خفية عنا غير بادية الصفحة لنا4، لذلك نادى ابن مضاء بسقوط كثير من هذه العلل التي لا يراد بها إلّا إثبات الحكمة والمنطق التعليلي للعرب، فقال: “وما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن “زيد” من قولنا: “قام زيد”، لم رُفِعَ؟ فيقال: لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول: ولم رُفِعَ الفاعل؟ فالصواب أنه يقال له: كذا نطقت العرب.
ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر, ولا فرق بين ذلك وبين من
__________
1 الصاحبي، باب القول في أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها 12.
2 الصاحبي 43, وقد قال ابن فارس هذا في معرض رد الدعوى القائلة أن للأعاجم شعرًا، فهو يؤكد أن العرب قرءوا هذا الشعر فوجدوه قليل الماء, نزر الحلاوة، غير مستقيم الوزن “ص42”.
3 مناهج 17-23.
4 الخصائص 1/ 46.
عرف أن شيئًا ما حرام بالنص، ولا يحتاج فيه إلى استنباط علة، لينقل حكمه إلى غيره، فسأل لم حُرِّمَ؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على الفقيه”1.
وانتقلت عدوى المنطق الأرسطي أيضًا إلى العربية عند تطبيق المقولات العشر على أبوب النحو ومباحثه، ومن المعلوم أن هذه المقولات هي:
الجوهر والكم والكيف والزمان والمكان والإضافة والوضع والملك والفاعلية والقابلية2, ومن السهل أن نقارن بين الدراسات النحوية العربية وتلك المقولات إذا تجردنا في نظرتنا إلى بحوث بعض العلماء المعاصريين3.
أما مباحث القوم حول أصل اللغة، إلهام هي أم اصطلاح، فكانت ذات وجهين، كلاهما يخرج عن المنهج اللغوي الوصفي, ثم يتلون باللون المناسب له، أما أحدهما فغيبيّ “ميتافيزيقي” لا يخلو من سذاجة، كقول ابن فارس: “إن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله جل ثناؤه: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، فكان ابن عباس يقول: “علمه الأسماء كلها، وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها … “4. وأما الآخر فمنطقيٌّ في تعابيره واستنتاجاته، لتأثره بالمناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، ولا سيما إذا وصفت هذه المناسبة بأنها ذاتية موجبة لا يجوز أن تتخلف، كما كان يرى عباد بن سليمان الصيمري من المعتزلة5. ولا يبتعد عن هذه الميدان المنطقي تساؤل ابن جني عن اللغة: أمواضعة هي أم إلهام؟ 6
__________
1 الرد على النحاة 151.
2 راجع مثلًا حاشية العطار على شرح مقولات السجاعي.
3 كالدكتور تمام حسان في كتابه القيم “مناهج البحث في اللغة” ولا سيما ص18 وما بعدها.
4 الصاحبي 5.
5 المزهر 1/ 474 ط/ 3.
6 الخصائص 1/ 21.
ففي المواضعة تبرز تلك المناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، ويتبين مدى التأثير المنطقي.
من هنا كان علينا أن نُقَصِّيَ جانبًا جميع المباحث التي لا تتعلق بفقه اللغة تعلقًا وثيقًا، فالمنطق الصوري وتعليلاته وأقيسته، وما وراء الطبيعة من الغيبيات، وفرض القواعد والمعايير كما تفرض أحكام القانون، كل هذه ليس من المنهج اللغوي في شيء، فلا مناص من تجديد البحث في فقه اللعة إذا أردنا للغتنا الحياة والخلود.
الفصل الثالث: تجديد البحث في فقه اللغة
إن المنهج الصالح في دراسة فقه اللغة هو المنهج الاسقرائي الوصفي الذي يعترف بأن اللغة ظاهرة إنسانية اجتماعية؛ كالعادات والتقاليد والأزياء ومرافق العيش، بل هي بين الظواهر الاجتماعية كلها دليل نشاطها، ووعاء تجاربها، وبها تستقصى الملامح المميزة لكل مجتمع1.
لا شيء في الحياة يؤكد خصائص المجتمع، ويبرزها على وجهها الحقيقي؛ كاللغة المرنة المطواع التي تعبر بألفاظها الدقيقة الموحية عن حاجات البشر مهما تتشعب، حتى تصبح الرمز الذي به يعرفون، والنسب الذي إليه ينتسبون2!
هذا المسلك الاجتماعي الذي لا تزال اللغة الإنسانية تسلكه في أرقى المجتمعات وأبسطها, يسمح لنا بتوسيع المجال أمام العرف لتحديد مقاييس
__________
1 Bloch and Tnager. Outine of Iinguistic Analysis, 5
2 Vendryes, Le Langage. 240-261
اللغة ومعايير استعمالها فلا قيمة للأصوات والكلمات والصيغ والتراكيب إلّا بمقدار ما يتعارف المجتمع على أنها رموز للدلالة1.
“أليست هذه الألفاظ العامة التي نستعملها؛ كالشجرة، والإنسان, والبشرية، والحرية، أشبه بالرموز الرياضية؟ أليست أشبه بالنقود التي يرمز بها إلى القيم؟ أولم تكن الرموز الرياضية والاقتصادية وسيلة للرقيّ في الميدانين الفكريّ والاقصادي؟ وكذلك اللغة، فهي لم تقتصر على كونها معبرة عن التفكير، بل كان كذلك أداة نمائه وارتقائه … “2.
لقد ظلَّ العالم غافلًا عن تلك الرموز اللغوية حتى أواخر القرن السابع عشر، فكان يحاول تأويل نشأة اللغات في سذاجة عجيبة، حتى أوشك كثير من العلماء أن يجزموا بأن العبرية، لغة الوحي، هي لغة الإنسانية الأولى التي تشعبت منها لغات العالم المعروفة كلها3. وكان على آباء الكنسية أن يستندوا إلى الكتاب المقدس لتأييد هذا الرأي، وقد وجدوه في سفر التكوين: “والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها، وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان, فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول”4. وكذلك استند العرب من قبل إلى آية قرآنية حين مال كثير منهم إلى أن لغة العرب توقيف لا اصطلاح، واضطر ابن جني إلى تأويل تلك الآية على غير ما فهمها عليه أشياخه، فنسب إلى أكثر أهل النظر القول بأن أصل اللغة تواضع واصطلاح لا وحي ولا توقيف، ثم قال: “ألا إن أبا عليّ -رحمه الله- قال لي يومًا: هي من عند الله؛ واحتج بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّم
__________
1 Edward Sapir, Selected Writings, 549
2 فقه اللغة, للأستاذ المبارك, ص2.
3 perr, op cit, 69
4 سفر التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 19 وما يليها.
آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، وهذا لا يتناوله موضع الخلاف، وذلك أنه قد يجوز أن تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها”1.
فإذا استثنينا رأي هذا العبقري ابن جني الذي سبق إلى القول بوضع اللغة، وبأن وضعها لم يكن في وقت واحد، بل على دفعات؛ إذ تلاحق تابع منها بفارط2، وأنها بدأت بصورتها الصوتية السمعية, فكانت أصل اللغات كلها الأصوات المسموعة3، واستثنينا أيضًا آراء من تابع ابن جني على هذا المذهب السديد، وجدنا أئمة العربية الباقين يكادون يطبقون على أن اللغة إلهام وتوقيف، ويكادون لا يختلفون في تصورهم نشأة اللغة الإنسانية عَمَّا ظلَّ سائدًا في الغرب حتى أواخر القرن السابع عشر في الأوساط الكنسية, إلّا في فرق ضئيل لا يؤبه له: أن لغة الوحي في نظر الإسلام كانت لغة القرآن، علي حين كانت في نظر آباء الكنسية لغة الكتاب المقدس!
ومن أعجب صور التلاقي على صعيد الفكر أن العرب حين غَلَوْا في لغتهم؛ لأنها لغة الوحي، فخصوها بالمناسبة الطبيعية بين ألفاظها ومدلولاتها، نافسهم الغربيون بتخصيص هذه المناسبة بالعبرية؛ لأنها لغة الوحي كذلك، فهبَّ كيشارد E. Giichrd, في مطلع القرن السابع عشر يبرز فكرة التناسق الصوتي في اللغات المتفرعة من العبرية4.
وكان لـ “ليبنز Leibiz” الفضل في مقاومة هذا التفكير الأسطوري الذي يبدأ بافتراض الرأي, وينتهي سريعًا إلى التسليم به، ثم إلى فرضه
__________
1 الخصائص 1/ 9.
2 نفسه 1/ 417.
3 نفسه 1/ 44-54.
4 وذلك في كتابه
Harmonie etymologiqe langues descendues de l hebraique.
على الناس1، ورأينا كثيرًا من الباحثين -بعد ليبنز- ينكرون القول بأصل اللغات، وينادون باستحالة الوصول إلى نتيجة قطعية تبين الصورة التي بدأ الإنسان يتكلم عليها؛ فهناك لغات تنتسب إلى تواريخ منها القديم، ومنها الأقدم, ونحن نعرف بعض لغاتنا الحديثة في صور قديمة ترجع إلى أكثر من عشرين قرنًا, ولكن أقدم اللغات المعروفة، اللغات الأمهات كما تسمى أحيانًا، لا شيء فيها من البدائية، ومهما اختلفت عن لغاتنا الحديثة فإنها لا تفيدنا علمًا بالتغيرات التي طرأت على الكلام، ولا تدلنا على شيء من كيفية نشوئها”2.
لقد بات لزامًا علينا تجديد البحث في فقه اللغة، فليس يعنينا أن نتقصى أصل اللغة الغامض المجهول، وليس علينا أن نعلل كل صوت لغوي, أو رمز دلالي, أنه على وجه الحكمة كيف وقع، وبأي لغة ينطق، بل يعنينا أن نتابع التطور اللغوي كيف حدث؟ بعد إحصائه واستقرائه وملاحظته, ومقارنة بعض مظاهره ببعض، وعلينا أن نبدأ بجمع ما يمكننا من المعلومات عن اللغات الإنسانية المختلفة لنخرج أخيرًا بالسنن العامة والقوانين الثابتة في علم اللغة العام؛3 وفي ضوئها نحدد خصائص لغتنا المدروسة بطريقة وصفية استقرائية؛ كصنيعنا هنا في فقه اللغة العربية.
وإنّ هذه الطريقة الوصفية لتفرض علينا الاعتراف بحقيقةٍ لا يمكن نكرانها: وهي أنه لم يعثر قط على قبيلة لا لغة لها، “وأن المتوحشين أنفسهم ليسوا بدائيين، رغم الإسراف في تسميتهم بهذا الاسم في غالب
__________
1 perrot, op. cit., 69. 70.
2 فندريس، اللغة 29-30.
3 وهذا ما يسمى في نظر العلماء الانتقال من اللغات إلى اللغة Des lagues langage
وانظر فيه بوجه خاص A. Sommerfelt في أبحاثه poins de vue diachonique,
synchronique et panchroni que generale (cf. perrot, op. cit 106)
الأحيان، فهم يتكلمون أحيانًا لغات على درجة من التعقيد لا تقل عما في أكثر لغاتنا تعقيدًا، ولكن منهم من يتكلم على درجة من البساطة تحسدهم عليها أكثر لغاتنا بساطة, فهذه وتلك ليست إلّا نتيجة تغيرات تغيب عنا نقطة البدء التي صدرت عنها”1.
ومن يقرر هذه الحقيقة المتلعقة بلغات المتوحشين، ولا يستبعد أن يكون لتلك اللغات وخصائصها بساطة أو تعقيدًا، وتطورًا أوجمودًا، ولا يسعه أن يغض النظر في دراسة فقه العربية عن أخواتها من اللغات السامية؛ لأنها -فضلًا على أنها كانت رموزًا لحضارات سابقة- لم تنفصم العرى الوثيقة التي ظلت آمادًا طوالًا تربط بين بعضها وبعض في أغمض ظروف التاريخ.
وإن تعجب فعجبٌ تغافلُ علمائنا القدامى عن هذ القضية البديهية، مع أن كثيرًا منهم أشاروا في مواطن مختلفة إلى بعض اللغات السامية؛ كالعبرية والسريانية، بل عرف بعضهم اليهود والسريان واتصلوا بهم، وأفادوا إفادة خاصة من نقل السريان فلسفة اليونان إلى العربية.
ولعل للعصبية العمياء دخلًا في هذه النظرة العجلى إلى الحقائق والأشياء، فهم لا يريدون أن يقارنوا لغة القرآن بأية لغة أتيح لهم أن يلموا بها؛ لأن لغة العرب بزعمهم أشرف اللغات؛ ولو أرادوا ذلك ما استطاعوا إليه سبيلًا، فما تيسّر للباحثين في العصور الوسطى أن يتناولوا اللغات بالدراسة التاريخية المقارنة، وإنما ظهرت تلك الدراسات بعد عشرة قرون أو أكثر.
أنّى لهم إذن أن يكتشفوا خصائص العربية على حقيقتها؟
أنّى لهم أن يروا رأي العين أن العربية هي “أشد اللغات السامية احتفاظًا بمقومات اللسان السامي الأول، فقد نشأت غالبًا في موطنها القديم، لم تحل محل لغة أخرى غير سامية, كما حدث لسائر اللغات السامية
__________
1 فتدريس 29-30.النازحة، وموقعها الجغرافي ساعدها على الاستقلال بعيدة عن المؤثرات الأجنبية؟! 1”.
إن علينا الآن -وقد ارتضينا الاستقراء والوصف طريقة ومنهاجًا- ألَّا نكتفي بتصوير وشائج القربى بين العربية والساميات، بل نلم فوق ذلك بفصائل اللغات الإنسانية لنعرف السر في إطلاق السامية على لغتنا، ثم نضيف إلى هذا كله لونًا من المقارنة بين بعض اللهجات العربية القديمة، لنصل منها آخر الأمر إلى لغتنا العربية الفصحى بخصائصها الفذة وأسلوبها المبين.
__________
1 قارن بالنحو العربي على ضوء اللغات السامية 30.

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

Ilmu Badi' علم البديع

KAJIAN BALAGHAH: JINAS

المشاكلة في البلاغة