في علّة بناء "الآن"؟
ذهب الكوفيون إلى أن "الآن" مبنيّ؛ لأن الألف واللام دخلتا على فعل ماضٍ من قولهم: "آن يَئِينُ" أي حان، وبقي الفعل على فتحته.
وذهب البصريون إلى أنه مبنيّ لأنه شابه اسم الإشارة، ولهم فيه أيضًا أقوال أُخَرُ نذكرها في دليلهم.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الألف واللام فيه بمعنى الذي، ألا ترى أنك إذا قلت "الآن كان كذا" كان المعنى: الوقت الذي آن كان كذا، وقد تُقَامُ الألف واللام مقام الذي لكثرة الاستعمال طلبًا للتخفيف، قال الفرزدق:
[344]
ما أنت بالحَكَمِ التُرْضَى حُكُومَتُهُ ... ولا البَلِيغِ ولا ذِي الرَّأْيِ والجَدَلِ
أراد "الذي تُرْضَى" وقال الآخر:
[345]
بل القوم الرسول الله فيهم ... هم أهل الحكومة من قُصِيِّ
وقال الآخر:
[91]
يقول الخَنَا وأبغض العُجْمِ نَاطِقًا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع
ويستخرج اليربوع من نَافِقَائِهِ ... ومن جُحره بالشّيحة اليَتَقَصَّعُ
أراد "الذي يُجَدَّعُ، والذي يَتَقَصَّعُ" فكذلك ههنا في الآن، وبقي الفعل على فتحته، كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه نَهَى عن قيل وقال" وهما فعلان ماضيان، فأدخل عليهما حرف الخفض وبَقَّاهما على فتحهما، وكذلك قولهم "من شَبّ إلى دَبَّ" بالفتح؛ يريديون من أن كان صغيرًا إلى أن دَبَّ كبيرًا، فَبَقُّوا الفتح فيهما، فكذلك ههنا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن سبيل الألف واللام أن يدخلا لتعريف الجنس، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وكقولهم "الرجل خير من المرأة" وكقولهم "أهلك الناس الدينار والدرهم" أو لتعريف العهد، كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] أو يدخلا على شيء قد غلب عليه نعته فعرف به، كقولك: الحارث، والعباس، والسِّمَاك، والدَّبَرَان؛ فلما دخلا ههنا على غير ما ذكر ودخلت على معنى الإشارة إلى الوقت الحاضر صار معنى قولك "الآن" كقولك: هذا الوقت، فشابه اسم الإشارة، واسم الإشارة مبنيّ؛ فكذلك ما أشبهه، وكان الأصلُ فيه أن يبنى على السكون إلا أنه بني على حركة لالتقاء الساكنين، وكانت الفتحة أولى لوجهين:
أحدهما: أنها أَخَفُّ الحركات وأشكلها بالألف والفتحة التي قبلها فأتبعوها الألف والفتحة التي قبلها كما أتبعوا ضمة الذال التي في "مُنْذُ" ضمة الميم، وإن كان حق الذال أن تكسر لالتقاء الساكنين.
والوجه الثاني: أن نظائرها من الظروف المستحقة لبناء أواخرها على حركة كأين وأيان بنيت على الفتح؛ فكذلك "الآن" لمشاركتها لهما في الظرفية.
ومنهم من قال، وهو أبو العباس المبرد: إنما بني "الآن" لأنه وقع في أول أحواله بالألف واللام، وسبيل ما يدخل عليه الألف واللام، أن يكون منكورًا أولا ثم يعرف بهما، فلما خالف سائر أخواته من الأسماء وخرج إلى غير بابه بُنِيَ.
ومنهم من قال، وهو أبو سعيد السيرافي: إنما بني لأنه لما لزم موضعًا واحدًا أشبه الحرف؛ لأن الحروف تلزم مواضعها التي وضعت فيها في أوليتها، والحروف مبنية؛ فكذلك ما أشبهها.
ومنهم من قال، وهو أبو علي الفارسي: إنما بني لأنه حذف منه الألف واللام وضمن الاسم معناهما، وزيدت فيه ألف ولام أُخْرَيان.
وبني على الفتح في جميع الوجوه؛ لما ذكرناه في الوجه الأول، وهو الذي عليه سيبويه وأكثر البصريين.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الألف واللام فيه بمعنى الذي "قلنا" هذا فاسد؛ لأن الألف واللام إنما يدخلان على الفعل وهما بمعنى الذي في ضرورة الشعر كما أنشدوه من الأبيات، لا في اختيار الكلام؛ فلا يكون فيه حجة.
وأما ما شبهوه به من نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قيل وقال فليس بمشبه له؛ لأنه حكاية، والحكايات تدخل عليها العوامل فَتُحْكَى، ولا تدخل عليها الألف واللام؛ لأن العوامل لا تغير معاني ما تخل عليه كتغيير الألف واللام، ألا ترى أنك تقول: "ذهب تأبط شرًّا، وذَرَّى حبًا، وبرق نحره، ورأيت تأبط شرا، وذرى حبا، وبرق نحره، ومررت بتأبط شرا، وذرى حبا، وبرق نحره" ولا تقول: هذا التأبط شرا، ولا الذرى حبا، ولا البرق نحره، وما أشبه ذلك، وكذلك تقول: رفعنا اسم كان بكان، ونصبنا اسم إن بإن، ولا تقول رفعناه بالكان ونصبناه بالإنّ، فبان الفرق بينهما؛ وهذا هو الجواب عن قولهم "من شَبَّ إلى دَبَّ" على أنه لو أخرجت هذه الأشياء إلى الأسماء فقيل "عن قيلٍ وقالٍ"، "ومن شبٍّ إلى دبٍّ" فأدخلت الجر والتنوين لكان ذلك جائزًا بالإجماع، على أنه قد صحّ عن العرب أنهم قالوا: من شب إلى دب -بالجر والتنوين- وقد حكى ذلك أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء من أصحابكم، وذلك ألزم لكم وأوفى حجة عليكم، والله أعلم.
Comments
Post a Comment