فعل الأمر معرب أو مبنيّ؟

Hilman Fitri
Staf pengajar SDIT Uswatun Hasanah
ذهب الكوفيون إلى أن فعل الأمر للمُوَاجَهِ المُعَرَّى عن حرف المضارعة -نحو افعل- معربٌ مجزومٌ.
وذهب البصريون إلى أنه مبني على السكون.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه معرب مجزوم لأن الأصل في الأمر للمُوَاجَهِ في نحو: “افْعَلْ” لِتَفْعَلْ، كقولهم في الأمر للغائب “ليفعل” وعلى ذلك قوله تعالى: “فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ” [يونس: 58] في قراءة من قرأ بالتاء من أئمة القرَّاء، وذُكِرَتِ القِرَاءةُ أنها قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق أُبَيِّ بن كعب، ورويت هذه القراءة عن عثمان بن عفان وأنس بن مالك والحسن البصري ومحمد بن سيرين وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني وأبي رجاء العُطَارديّ وعاصم الجَحْدَريّ وأبي التَّيَّاح وقتادة والأعرج وهلال بن يِسَاف والأعمش وعمرو بن فائد وعلقمة بن قيس ويعقوب الحضرمي وغيرهم من القراء. وقد جاء في الحديث “ولتَزُرَّهُ ولو بِشَوْكَةٍ” أي زُرَّهُ، وجاء عنه -صلوات الله- عليه أنه قال في بعض مغازيه: “لتأخذوا مصافّكم” أي خذوا، وقال -صلوات الله عليه- مرة أخرى “لِتَقُومُوا إلى مَصَافِّكم” أي قوموا، وقال الشاعر:
[346]
لِتَقُمْ أنت يابْنَ خير قريش … فَتُقَضَّى حَوَائجُ المسْلِمينَا
وقال الآخر:
[347]
فلتكن أبعد العُدَاةِ من … الصلح من النجم جَارُهُ العَيُّوقُ
وقال الآخر:
[348]
لتبعد إذ نأى جَدْوَاكَ عنِّي … فلا أشقى عليك ولا أُبَالِي
فثبت أن الأصل في الأمر للمواجهة [في نحو افعل] أن يكون باللام نحو لتفعل كالأمر للغائب، إلا أنه لما كثر استعمال الأمر للواجه في كلامهم وجرى على ألسنتهم أكثر من الغائب استثقلوا مجيء اللام فيه مع كثرة الاستعمال فحذفوها مع حرف المضارعة طلبا للتخفيف، كما قالوا “أيش” والأصل: أيّ شيء، وكقولهم “عِمْ صباحا” والأصل فيه: انْعِم صباحا، من نعم ينعم بكسر العين في أحد اللغتين، وكقولهم “وَيْلُمِّهِ” والأصل فيه: ويل أمه، إلا أنهم حذفوا في هذه المواضع لكثرة الاستعمال، فكذلك ههنا: حذفوا اللام لكثرة الاستعمال؛ وذلك لا يكون مزيلا لها عن أصلها ولا مبطلا لعملها.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه معرب مجزوم أنا أجمعنا على أن فعل النهي معرب مجزوم نحو “لا تفعل” فكذلك فعل الأمر نحو “افعل” لأن الأمر ضد النهي، وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره، فكما أن فعل النهي معرب مجزوم فكذلك فعل الأمر.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه معرب مجزوم بلام مقدرة أنك تقول في المعتل “اغْْزُ، وارْمِ، واخش” فتحذف الواو والياء والألف كما تقول “لم يغزُ، ولم يرمِ، ولم يخشَ” بحذف [حرف] العلة؛ فدل على أنه مجزوم بلامٍ مقدرة.
قالوا: ولا يجوز أن يقال “إن حرف الجر لا يعمل مع الحذف فحرف الجزم أولى؛ لأن حرف الجر أقوى من حرف الجزم؛ لأن حرف الجر من عوامل الأسماء، وحرف الجزم من عوامل الأفعال، وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال، فإذا كان الأقوى لا يعمل مع الحذف فالأضعف أولى” لأنا نقول: قولكم “إن حرف الجر لا يعمل مع الحذف” لا يستقيم على أصلكم؛ فلا يصلح إلزامًا لكم؛ فإنكم تذهبون إلى أن “رُبَّ” تعمل الخفض مع الحذف بعد الواو والفاء وبل، وإعمالها بعد الواو نحو قول الراجز:
[236]
وبَلَدٍ عامِيَةٍ أَعَماؤُهُ … كأن لون أرضه سماؤه
أي: ورُبَّ بلد، وإعمالها بعد الفاء نحو قول الشاعر:
[240]
فَحُورٍ قد لَهَوْتُ بِهِنَّ عِينٍ
أي: فرُبَّ حورٍ، وإعمالها بعد بل نحو قول الراجز:
[349]
بل بلد ملءُ الفجاجِ قَتَمُهْ … لا يَشْتَرِي كَتّانُهُ وجَهْرَمُهْ
أي: بل رب بلد، فأعملتم “رب” في هذه المواضع مع الحذف، وهي حرف خفض وهذه مناقضة ظاهرة؛ فدل على أن حرف الخفض قد يعمل مع الحذف، على أنه قد حكى نَقَلَةُ اللغة عن رؤبة أنه كان إذا قيل له: كيف أصبحت، يقول: خيرٍ عافاك الله، أي: بخير، فيعمل [حرف] الخفض مع الحذف.
وكذلك أيضا مَنْعُكُمْ إعمال حرف الجزم1 مع الحذف لا يستقيم أيضا على أصلكم، فإنكم تذهبون إلى أن حرف الشرط يعمل مع الحذف في ستة مواضع، وهي: الأمر، والنهي، والدعاء، والاستفهام، والتمني، والعرض، والأمر نحو: ايتني آتك، والنهي: لا تفعل يكن خيرًا لك، والدعاء: اللهم ارزقني بعيرًا أحجَّ عليه، والاستفهام: أين بيتك أزرك، والتمني: ألا ماء أشربه، والعرض: ألا تنزل أكرمك، فأعملتم حرف الشرط مع الحذف في هذه المواضع كلها لتقديره فيها.
وقد جاء عن العرب إعمال حرف الجزم مع الحذف، قال الشاعر:
[350]
محمد تَفْدِ نفسك كلُّ نفسٍ … إذا ما خِفْتَ من أَمْرٍ تَبَالَا
والتقدير فيه: لتفد نفسك، فحذف اللام وأعملها في الفعل الجزم، وقال الشاعر:
[351]
فقلت ادْعِي وأدْعُ؛ فإن أَنْدى … لصوت أن ينادي داعيان
أراد “ولأَدْعُ “وقال الآخر:
[352]
على مثل أصحاب البعوضة فَاخْمِشِي … لك الويلُ حُرّ الوجه أو يَبْكِ من بَكَى
أراد “لِيَبْكِ” وقال الآخر:
[353]
من كان لا يزعم أني شاعر … فيدن مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ
أراد “فليدن” فحذف اللام وأعملها في الفعل الجزم، وهذا كثير في أشعارهم، وإذا جاز أن يعمل حرف الجزم مع الحذف في هذه المواضع جاز أن يعمل ههنا مع الحذف لكثرة الاستعمال.
وكذلك أيضا منعكم إعمال سائر عوامل الأفعال مع الحذف لا يستقيم أيضا على أصلكم؛ فإنكم تذهبون إلى أن أن الخفيفة المصدرية تعمل مع الحذف بعد الفاء إذا كانت جوابا للستة الأشياء التي جوزتم فيها إعمال أن الخفيفة الشرطية مع الحذف، نحو: ايتني فآتيك، ولا تفعل يكون خيرا لك، واللهم ارزقني بعيرا فأحج عليه، وأين بيتك فأزورك، وألا ماء فأشربه، وألا تنزل فأكرمك، وكذلك تعملونها مع الحذف بعد الفاء في جواب النفي نحو: ما أنت صاحبي فأعطيك، وكذلك أيضا تعملونها مع الحذف بعد الواو نحو: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وبعد “أو” نحو: لأشكونك أو تُعْتِبَنِي، وبعد لام كي نحو: جئتك لتكرمني، وبعد لام الجحود نحو: ما كنت لأفعل ذلك، وبعد حتى نحو: سرت حتى أدخلها، قال الله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وإذا جاز لكم أن تعملوا أن الناصبة للفعل بعد هذه الأحرف مع الحذف وهي من عوامل الأفعال وإن الجازمة للفعل في المواضع التي بيّناها مع الحذف وهي من عوامل الأفعال جاز أن تعمل اللام الجازمة للفعل مع الحذف لكثرة الاستعمال وإن كانت من عوامل الأفعال.
قالوا: ولا يجوز أن يقال “إنَّ نَزَالِ مبنيّ لأنه قام مقام فعل الأمر، فلو لم يكن فعل الأمر مبنيًّا وإلا لما بني ما قام مقامه” لأنا نقول: إنما بني نزال لتضمنه معنى لام الأمر، ألا ترى أن نزال اسم انْزِلْ، وأصله لتنزل، فلما تضمن معنى اللام كتضمن أين معنى حرف الاستفهام، وكما أن أين بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام؛ فكذلك بنيت نزال لتضمنها معنى اللام.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مبني على السكون لأن الأصل في الأفعال أن تكون مبنية، والأصل في البناء أن يكون على السكون، وإنما أعرب ما أعرب من الأفعال أو بني منها على فتحة لمشابهة ما بالأسماء، ولا مشابهة بوجه ما بين فعل الأمر والأسماء؛ فكان باقيًا على أصله في البناء.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه مبني أنا أجمعنا على أن ما كان على وزن فَعَالِ من أسماء الأفعال -كنزال، وتراك، ومناع، ونعاء، وحذار، ونظار- مبني؛ لأنه ناب عن فعل الأمر فنزال ناب عن انزل، وتراك ناب عن اترك، ومناع ناب عن امنع، ونعاء ناب عن انع، وحذار ناب عن احذر، ونظار ناب عن انظر، قال زهير:
[354]
ولأنت أشجع من أسامة إذ … دُعِيَتْ نَزَالِ وَلَجَّ في الذُّعْر
أراد انْزِلْ، وأنثها لأنها بمنزلة النَّزْلة، وقال الآخر:
[355]
عرضنا نزالِ فلم ينزلوا … وكانت نزال عليهم أَطَمْ
وقال الآخر:
[356]
فدعوا نزال فكنت أوَّل نازلٍ … وعَلَامَ أَرْكَبُهُ إذا لم أَنْزِلِ
وقال الآخر:
[357]
تَرَاكِهَا من إبل تَرَاكِهَا … أما ترى الموت لدى أَوْرَاكِهَا
أراد “اتْرُكْهَا” وقال الآخر:
[358]
مَنَاعِهَا من إبل مَنَاعِهَا … أما ترى الموت لدى أرباعها
أراد “امنعها” وقال جرير:
[359]
نَعَاءِ أبا ليلى لكل طِمِرَّةٍ … وجَرْدَاءَ مثل القَوْسِ سَمحٌ حُجُولُهَا
أراد “انْعَ” وقال الآخر:
[360]
نعاءِ ابن ليلى للسَّماحة والنَّدَى … وأيدي شمال باردات الأنامل
[361]
نعاءِ جُذَامًا غير موت ولا قتل … ولكن فِرَاقًا للدَّعَائِمِ والأَصْل
أراد “انْعَ جُذَامًا” وقال الآخر، وهو أبو النجم:
[362]
حَذَارِ من أرماحنا حَذَارِ
أراد “احْذَرْ” وقال رؤبة:
[363]
نَظَارِ كي أركبها نَظَارِ
أراد “انْظُرْ” فلو لم يكن فعل الأمر مبنيًّا وإلا لما بني ما ناب مَنَابَهُ، وما ذكره الكوفيون على هذا فسنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم في موضعه إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم “إن الأصل في افعل لتفعل” قلنا: لا نسلم، قولهم “كما قالوا للغائب: ليفعل” قلنا: فكان يجب أن لا يجوز حذف اللام منه، كما لا يجوز في الغائب، قولهم “إنما حذفت في الأمر للمواجهة لكثرة الاستعمال” قلنا: هذا فساد؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يختص الحذف بما يكثر استعماله دون ما يقل استعماله- نحو: احْرَنْجَمَ واعْرَنْزَمَ، واعْلَوَّطَ، واخْرَوَّطَ، واسْبَطَرَّ، واسْبَكَرَّ- وما أشبه ذلك من الأفعال؛ لأن الحذف لكثر الاستعمال إنما يختص بما يكثر في الاستعمال، ألا ترى أنهم قالوا في “لم يكن”: لم يَكُ؛ فحذف النون لكثرة الاستعمال، ولم يقولوا في “لم يَصُنْ”: لم يَصُ، ولا في “لم يَهُنْ”: لم يَهُ، لأنه لم يكثر استعماله، وقالوا في “لم أُبَالِ”: لم أَبَلْ؛ فحذفوا الكسرة لكثرة الاستعمال، ولم يقولوا في “لم أوَالِ”: لم أوَلْ، ولا في “لم أَعَالِ”: لم أَعَلْ؛ لأنه لم يكثر استعماله، وكذلك قالوا في أي شيء”: أيْشٍ -بالشين معجمة- لكثرة استعماله، ولم يقولوا في “أي سَيء”: أيس -بالسين غير معجمة- لقلة استعماله، وقالوا “عِمْ صباحًا” في أنعم صباحا؛ لكثرته، ولم يقولوا “عمِ ْبَالًا” في انعم بالًا؛ لقلته، وقالوا “وَيْلُمِّهِ” في: ويل أمِّهِ، ولم يقولوا في “ويلخته” في ويل أخته؛ لقلته، فلما حذفت اللام وحرف المضارعة في محل الخلاف من جميع الأفعال التي تكثر في الاستعمال والتي تقل في الاستعمال دلَّ على أن ما ادَّعَوْهُ من التعليل ليس عليه تعويل، ثم لو قدرنا أن الأصل فيه ما صرتم إليه إلا أنه قد تضمن معنى لام الأمر، فإذا تضمن معنى لام الأمر فقد تضمن معنى الحرف، وإذا تضم معنى الحرف وجب أن يكون مبنيًّا. ثم نقول إن علة وجود الإعراب في الفعل المضارع وجود حرف المضارعة، فما دام حرف المضارعة ثابتا كانت العلة ثابتة، ومادامت العلة ثابتة سليمة عن المضارعة كان حكمها ثابتًا؛ ولهذا كان قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 10] معربًا، وقوله صلوات الله عليه “ولتزُرَّهُ” و”لتأخُذُوا” و”لتقومُوا” وما أشبهه معربًا لوجود حرف المضارعة، ولا خلاف في حذف حرف المضارعة في محل الخلاف، وإذا حذف حرف المضارعة -وهو علة وجود الإعراب فيه- فقد زالت العلة؛ فإذا زالت العلة زال حكمها، فوجب أن لا يكون فعل الأمر معربًا.
وأما قولهم “إن فعل النهي معرب مجزوم، فكذلك فعل الأمر؛ لأنهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره” قلنا: حمل فعل الأمر على فعل النهي في الإعراب غير مناسب؛ فإن فعل النهي في أوله حرف المضارعة الذي أوجب للفعل المشابَهَةَ بالاسم، فاستحق الإعراب، فكان معربًا وأما فعل الأمر فليس في أوله حرف المضارعة الذي يوجب للفعل المشابهة بالاسم؛ فيستحق أن لا يعرب؛ فكان باقيًا على أصله في البناء.
والذي يدل على ذلك أن لام التأكيد التي تدخل على الفعل المضارع في نحو “إن زيدا ليقوم” كما تقول “إن زيدا لقائم” لا يجوز دخولها على فعل الأمر، كما لا يصح دخولها على الفعل الماضي، وإن كان الماضي أقوى من فعل الأمر بدلالة الوصف به، والشرط به، وبنائه على حركة تشبه حركة الإعراب [و] بدليل أنه لا يلحق آخره هاء السكت، كما لا يلحق آخر الاسم المعرب، وإذا كان الماضي لا تدخله هذه اللام مع وجود شبه ما بالأسماء فلأن لا تدخل هذه اللام فعل الأمر مع عدم شبهٍ ما بالأسماء كان ذلك من طريق الأولى، وإذا ثبت أنها لا تدخله دلَّ على أنه لا مشابهة بينه وبين الاسم، وإذا لم يكن بينه وبين الاسم مشابهة كان مبنيًّا على أصله.
وأما قولهم: “إنك تحذف الواو والياء والإلف من نحو: اغز، وارم، واخش، ما تحذفها من نحو: لم يغز، ولم يرم، ولم يخش” قلنا: إنما حذفت هذه الأحرف التي هي الواو والياء والألف للبناء، لا للإعراب والجزم، حملًا للفعل المعتل على الصحيح، وذلك أنه لما استوى الفعل المجزوم الصحيح وفعل الأمر الصحيح، كقولك “لم يفعل وافعل يا فتى” وإن كان أحدهما مجزومًا والآخر ساكنًا سوِّيَ بينهما في الفعل المعتل، وإنما وجب حذفها في الجزم لأن هذه الأحرف التي هي الواو والياء والألف جرت مجرى الحركات لأنها تشبهها، وهي مركبة منها في قول بعض النحويين، والحركات مأخوذة منها في قول آخرين، وعلى كلا القولين فقد وجدت المشابهة بينهما، وكما أن الحركات تحذف للجزم، فكذلك هذه الأحرف، فلما وجب حذف هذه الأحرف في المعتل للجزم، فكذلك يجب حذفها من المعتل للبناء؛ حملًا للمعتل على الصحيح؛ لأن الصحيح هو الأصل، والمعتل فرع عليه؛ فحذف حملًا للفرع على الأصل.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وأنه ليس مجزومًا بلام مقدرة أن حرف الجر لا يعمل مع الحذف، فحرف الجزم أولى.
قولهم “إنكم تذهبون إلى أن رب تعمل الخفض مع الحذف بعد الواو والفاء وبل” قلنا: إنما جاز ذلك لأن فيما بقي من هذه الأحرف دليلًا على ما ألقي وبيانًا عنه، فلما كانت هذه الأحرف دليلًا عليه وبيانا عنه جاز حذفه؛ لأن المحذوف بهذه المثابة في حكم الثابت، بخلاف حرف الجزم؛ فإنه حذف وليس في اللفظ حرف يدل عليه ولا يبين عنه، فبان الفرق بينهما.
وأما قولهم “إنكم تذهبون إلى أن حرف الشرط يعمل مع الحذف في ستة مواضع، وهي الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمني والعرض” قلنا: الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم حذف حرف الشرط في هذه المواضع، ولا أن الفعل مجزوم بتقدير حرف الشرط، وإنما هو مجزوم لأنه جواب لهذه الأشياء التي هي الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمني والعرض، وهذا الوجه ذكره بعض النحويين، وليس بصحيح؛ لأنك لو حملت الكلام على ظاهره من غير تقدير حرف الشرط لكان ذلك يؤدي إلى محال، ألا ترى أنك إذا قلت: “ايتني آتك” كان الأمر بالإتيان موجبًا للإتيان، وإذا قلت: “لا تفعل يكن خيرًا” كان النهي عن الفعل موجبًا للخير، وإذا قلت: “اللهم ارزقني بعيرا أحجَّ عليه” كان الدعاء بالرزق موجبًا للحج، وإذا قلت: “أين بيتك أزرْك” كان الاستفهام عن بيته موجبًا للزيارة، وإذا قلت: “ألا ماء أشربْه” كان التمني للماء موجبًا للشرب، وإذا قلت “ألا تنزل عندنا أكرمْك” كان العرض موجبًا للكرامة، وذلك محال؛ لأن الأمر بالإتيان لا يكون موجبًا للإتيان وإنما يوجبه الإتيان؛ والنهي عن الفعل لا يكون موجبًا للخير، وإنما يوجبه الانتهاء، والدعاء بالرزق لا يكون موجبًا للحج، وإنما يوجبه الرزق، والاستفهام عن بيته لا يكون موجبًا للزيارة، وإنما يوجبه التعريف، والتمني للماء لا يكون موجبًا للشرب، وإنما يوجبه وجوده، والعرض بالنزول لا يكون موجبًا للكرامة، وإنما يوجبه النزول؛ فدل على أن حرف الشرط فيها كلها مقدر، وأن التقدير: ايتني فإنك إن تأتني آتك، ولا تفعل فإنك إن لا تفعل يكن خيرًا لك، واللهم ارزقني بعيرًا فإنك إن ترزقني بعيرًا أحج عليه، وأين بيتك فإنك إن تعرِّفْنِي بيتك أزرك، وألا ماء فإن يك ماء أشربه، وألا تنزل فإنك إن تنزل أكرمك؛ فدلّ على أن هذا الوجه الذي ذكره بعضهم عن تعري الكلام عن تقدير حرف الشرط ليس بصحيح.
والوجه الثاني: وهو الصحيح -أنا نسلم تقدير حرف الشرط، وأنه حذف، وإنما حذف لدلالة هذه الأشياء عليه، فصار في حكم ثابت على ما بيَّنَّا في حذف رُبَّ.
وأما قولهم “إن إعمال حرف الجزم مع حذف الحرف قد جاء كثيرًا، وأنشدوا الأبيات التي رووها” فنقول: أما قوله:
[350]
محمد تَفْدِ نفسك كُلُّ نفس … إذا ما خفت من أمر تَبَالَا
فقد أنكره أبو العباس محمد بن يزيد المُبَرِّد، ولئن سلمنا صحته -وهو الصحيح- فنقول: قوله “تفد نفسك” ليس مجزومًا بلام مقدرة، وليس الأصل فيه لتفد نفسك، وإنما الأصل: تفدي نفسك، من غير تقدير لام، وهو خبر يراد به الدعاء، كقولهم: غفر الله لك، ويرحمك الله، وإنما حذف الياء لضرورة الشعر اجتزاء بالكسرة عن الياء، كما قال الأعشى:
[247]
وأخو الغَوَانِ متى يشأ يَصْرِمْنَهَ … ويَصِرْنَ أعداء بُعَيْدَ وِدَادِ
أراد “الغواني” فاجتزأ بالكسرة عن الياء، وقال الآخر:
[364]
فما وَجَدَ النَّهْدِيُّ وَجْدًا وَجَدْتُهُ … ولا وَجَدَ العُذْرِيُّ قبل جَمِيلُ
أراد “قَبْلِي” وقال الآخر:
[365]
وطِرْتُ بِمُنْصُلِي في يَعْمَلَاتِ … دوامي الأيدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا
أراد “الأيدي”. وقال خُفَافُ بن نَدْبَةَ السلمي:
[366]
كنواحِ ريش حمامة نجدية … ومسحت باللثتين عَصْفَ الإِثْمِدِ
أراد “كنواحي” فاجتزأ بالكسرة عن الياء كما يجتزئون بالضمة عن الواو وبالفتحة عن الألف، فاجتزاؤهم بالضمة عن الواو كقولهم في قاموا “قامُ” وفي كانوا “كانُ” قال الشاعر:
[245]
فلو أن الأطِبَّاء كانُ حَوْلِي … وكانَ مع الأطباء الأَسَاةُ
إذا ما أذهبوا ألمًا بقلبي … وإن قيل: الأطِبَّاء الشّفَاةُ
أراد “كانوا” فاجتزأ بالضمة عن الواو.
واجتزاؤهم بالفتحة عن الألف نحو ما أنشدوا:
[245]
فلست بمدركٍ ما فاتَ منِّي … بِلَهْفٍ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَانِّي
أراد “بلهفًا” فاجتزأ بالفتحة عن الألف، كما قال رؤبة:
[283]
وصَّانِي العجاج فيما وَصَّنِي
أراد “فيما وصاني” فاجتزأ بالفتحة عن الألف.
واجتزاؤهم بهذه الحركات عن هذه الأحرف كثير في كلامهم، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحْصَى.
ثم لو صح أن التقدير فيه “لتفد” كما زعمتم فنقول: إنما حذف اللام لضرورة الشعر. وما حذف للضرورة لا يجعل أصلًا يقاس عليه.
وأما قوله.
[351]
فقلت ادْعِي وأَدْعُ فإنَّ أندى
فإنه قد روي:
[351]
… ادعي وأَدْعُو إنَّ أندى
بإثبات الواو في “أدعو” وحذف الفاء من “إن” فلا يكون فيه حجة، ولئن صح ما رووه فهو محمول على ضرورة الشعر كما بينا في البيت الأول، وهو الجواب عن قول الآخر:
[352]
… أو يَبْكِ من بَكَى
وعن قول الآخر:
[353]
فيدن مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ
والذي يدل على أن ذلك مما يختص بالشعر أن أبا عثمان المازني قال: جلست في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه: لا يجوز حذف لام الأمر إلا في شعر، وأنشد:
[353]
من كان لا يزعم أني شاعر …
فَيَدْنُ مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ
فقلت له: لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام؟ فقال: لأن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف؛ فدل على أن هذا الحذف إنما يكون في الشعر لا في اختيار الكلام، بالإجماع.
وأما ما رووه عن رؤبة من قوله: “خيرٍ” فلا خلاف أنه من الشاذ النادر الذي لا يعرَّجُ عليه، ولهذا أجمع النحويون قاطبة على أنه لا يجوز في جواب من قال: “أين تذهب” أن يقال: زيدٍ، على تقدير إلى زيد، وفي امتناع ذلك بالإجماع دليل على أنه من النادر الذي لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه.
وأما قولهم “إنكم تذهبون إلى أن “أن” الخفيفة المصدرية تعمل مع الحذف بعد الفاء والواو وأو ولام كي ولام الجحود وحتى، وإذا جاز لكم أن تعملوها مع الحذف وهي من عوامل الأفعال كذلك يجوز لنا أن نُعْمِلَ اللام مع الحذف وهي من عوامل الأفعال” قلنا: الجواب عن هذا من وجهين.
أحدهما: إنما جاز حذفها لأن هذه الأحرف دالة عليها، فصارت في حكم ما لم يحذف، على ما بينا في حذف رب وحرف الشرط، بخلاف لام الأمر، فبان الفرق بينهما.
والوجه الثاني: أنه لو كانت اللام الجازمة للفعل محذوفة كما تحذف أن لكان يجب أن يُلْقَى حرف المضارعة فيقال “تفعل” في معنى لتفعل، كما بقي حرف المضارعة مع حذف أن بعد الفاء والواو وأو ولام الجحود ولام كي وحتى، فلما حذف ههنا حرف المضارعة فقيل “افعل” دل على أن ما ذهبوا إليه قياس باطل لا أصل له ولا حاصل.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن ما كان على وزن فعال من أسماء الأفعال نحو نزال مبنيّ لقيامه مقام فعل الأمر، فلو لم يكن فعل الأمر مبنيا وإلا لما بني ما قام مقامه.
قولهم “إنما بني ما كان على فعال من أسماء الأفعال لتضمنه معنى لام الأمر، لأن نزال اسم انزل وأصله لتنزل” قلنا: هذا بناء منكم على أن فعل الأمر مقتطع من الفعل المضارع، وقد بينا فساده بما يغني عن الإعادة، ودللنا على أن فعل الأمر صيغة مُرْتَجَلَةٌ قائمة بنفسها باقية في البناء علي أصلها؛ فوجب أن يكون هذا الاسم مبنيًّا لقيامه مقامه على ما بينا، والله أعلم.

Comments

Popular posts from this blog

Ilmu Badi' علم البديع

المشاكلة في البلاغة

Shalawat Istri Nu Bakti